د. محمد عبدالوهاب عبدالوالي (*)
كثرت الدراسات التي تناولت بشكل أو بآخر موضوع التمييز بين الجماعات الإنسانية. وفي سبيلها لذلك اعتمدت على العديد من المصطلحات، ومنها مصطلح الجماعة الإثنية، والذي تناولته العلوم الانسانية والاجتماعية من زوايا ومداخل متعددة. خاصة بعد التغيرات الكبرى في الخارطة الجغرافية والسياسية التي نتجت بفعل الحروب، والتي أدت إلى انهيار وسقوط كثير من الإمبراطوريات والدول الكبرى، مثل الدولة العثمانية وإمبراطورية النمسا والمجر، والتعديلات التي طرأت على حدود الدول الأوروبية بفعل نتائج تلك الحروب مما أدى إلى ظهور دول جديدة لم تكن موجودة في السابق، وخاصة في وسط أوربا والبلقان. وللإثنية -كمفهوم- جذور تاريخيـة قـديمـة؛ أرجعها »ورسلي« إلى عصر الإغريق. وفي الوقت المعاصر تمت الاشارة إلى هذا المصطلح ضمن وثيقة إعلان حقوق شعوب روسيا الذي أعلنته الثورة الروسية عام ٧١٩١م ضمن المبادئ النظرية التي تنظم العلاقات بين القوميات المختلفة في الاتحاد السوفييتي؛ حيث وردت الإشارة إلى المجموعات الإثنية تمييزًا لها عن الأقليات القومية.)1)
وتجدر الاشارة إلى أن أول استخدام لكلمة إثنية في مجال العلوم الاجتماعية كانت على يد العالم السوسيولوجي »ديفيد رايزمان - David Reisman» عام ٣٥٩١م وهو تاريخ متأخر نسبيًّا. ولهذا لم يعرف مصطلح الإثنية طريقه إلى القواميس قبل أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات.(2) ولا يزال مصطلح الإثنية منذ شيوعه واستخدامه وحتى الوقت الحاضر من أكثر المفاهيم إثارة للخلاف وعدم الاتفاق حول مضامينه ودلالاته؛ حيث تردد محتواه بين التعبير عن جماعة فرعية وأقلية، وأحيانًا يتسع ليشمل كل أشكال التمايز، لتصبح الجماعة الإثنية خطًّا متواصلاً يبدأ بالقبيلة وينتهي بالأمة. ولذلك تعددت وكثرت التعريفات التي تناولت هذا المفهوم في الأدبيات الاجتماعية والسياسية والقانونية وغيرها، لدرجة أنه يكاد يكون من الصعب تناولها كلها في هذا السياق. ومصطلح الإثنية مشتق في الأساس من أصل يوناني هو كلمة "Ethniks"؛ وهي الصفة من كلمة "Ethnos"، والتي تعني في أصلها معنى وثني أو كافر. وكان هذا المفهوم يُستخدم بهذا المعنى في اللغة الإنجليزية منذ منتصف القرن الرابع عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، حتى أصبح يُستخدم تدريجيًّا منذ ذلك الحين للإشارة إلى بعض المعاني ذات الدلالات السلالية. وإبان الحرب العالمية الثانية تم استخدام هذا المصطلح في الولايات المتحدة الأمريكية كمصطلح مهذَّب يشير إلى اليهود والإيطاليين والأيرلنديين وغيرهم من الشعوب التي كانت تعتبر أقل وأدنى من أولئك المنحدرين من أصول بريطانية.(3) ويلاحظ أن مفهوم الإثنية اعتراه قدر من التغيير والتحول؛ حيث كان يعتمد على التمايز الديني في فترة ما قبل منتصف القرن التاسع عشر، ثم تحور بعد منتصف القرن التاسع عشر ليشير إلى نوع من التمايز القائم في الأساس على الانتماء لجنس معين دون آخر.
ويعد هذا التغير استجابة طبيعية لظروف المجتمع الغربي في كلتا الفترتين؛ حيث كانت هناك سيطرة للاتجاه الديني وللكنيسة في أوروبا إبَّان العصور الوسطى، ومن ثم كان من الطبيعي أن يقوم التمايز بين الجماعات الإنسانية في تلك الفترة على التمايز الديني، أما في فترة مـا بعـد منتـصف القرن التاسع عشر حيث ذيوع نظرية النشؤ والارتقاء »لدارون«، وسيادة الأفكار الخاصة بأفضلية وسمو جنس من البشر على أجناس أخرى، فكان مـن الطبيـعي أن يكون التمييز بين الجماعات الإنسانية قائمًا على أساس الانتماء لجنس دون آخر. ومنذ الستينيات من القرن العشرين، أصبح مصطلح الإثنية يُستخدم للدلالة على جماعة بشرية، تشترك أفرادها في العادات والتقاليد واللغة والدين وأي سمات أخرى مميزة كالأصل والملامح الفيزيقية الجسمانية، وتعيش في إطار مجتمع واحد مع جماعة أو جماعات أخرى تختلف عنها في أحد أو بعض هذه السمات.(4) فتعرَّف الجماعة الإثنية في معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية بأنها جماعة تعتنق ثقافة تقليدية مشتركة وشعور بالذات، وتعتبر جماعة فرعية من المجتمع العام، ويختلف أعضاؤها عن باقي أعضاء المجتمع فيما يتعلق ببعض الخواص الثقافية، وقد يكون لأفراد هذه الجماعة لغتهم الخاصة ودينهم وعاداتهم المميزة، والأهم من ذلك شعورهم بالتوحد كجماعة تقليدية متميزة.(5) ويتفــق هذا التعريف مع تعريف الإثنية الذي ورد في القاموس الحديث لعلم الاجتماع (6) في التركيز علي: ١- أهمية الجانب الثقافي في تكوين الجماعة الإثنية. ٢- أهمية الشعور بالذات كجماعة واحدة. حيث عُرِّفت الإثنية في القاموس الحديث لعلم الاجتماع على أنها »جماعة ذات ثقافة تقليدية خاصة بها وذات شعور بذاتيتها كجماعة فرعية في المجتمع الأكبر، ويختلف أعضاؤها في سماتهم الثقافية«. ويعرف »برودلي Broadly« الإثنية بأنها حالة من الانتماء إلى جماعة اجتماعية معينة تمتاز بارتكازها على بعض السمات المميزة لها مثل اللغة أو الدين أو السلف المشترك )7(، لكن يُلاحَظ أنه رغم أهمية تعريف »برودلي« للجماعة الإثنية لإضافته إحدى السمات المميزة لهذه الجماعة والمتمثلة في »السلف المشترك«؛ فلا تستطيع اللغة بمفردها أو الدين وحده أو مجرد الاشتراك في سلف واحد تكوين جماعات إثنية، وإلا أصبح كلّ من العالم العربي والعالم الاسلامي جماعات إثنـية وفق تعريف برودلي
وعلي ذلك وإذا كنا قد استقينا بعض ملامح مفهوم الإثنية من خلال التعريفات السابقة فهي ملامح تبدو غير كافية لبلورة صورة كاملة حول هذا المفهوم الذي يتسم بالتعقيد والتشعب والتداخل مع بعض المفهومات الأخرى مثل مفهوم العرق، مما يُحدِث نوعًا من الخلط، وأحيانًا عدم التمييز بين المفهومين في كثير من الكتابات، ولذلك يصبح من الضروري التمييز بين مفهوم الإثنية ومفهوم العرق ليصبح مفهوم الإثنية أكثر وضوحًا وأكثر دقة. يختلف مفهوم العرق في المعنى والدلالة عن مفهوم الإثنية، رغم وجود العديد من الدراسات التي ترادف بينهما في المعنى، مثال »فاروق مصطفى«(8) في كتابه الجماعات العرقية؛ حيث استخدم كلمة Ethnicity على أنها الجماعة العرقية، ورادف بينها وبين الإثنية، وكذلك الأمر بالنسبة لـ»أحمد وهبان«(9) الذي ترجم كلمة Ethnicity على أنها جماعة عرقية مشيرًا بها إلى تجمع بشري يشترك أفراده في بعض المقومات الفيزيقية »كوحدة الأصل« أو »الثقافة« كوحدة اللغة أو الدين أو التاريخ، أو غيرها من المقومات الثقافية. ويتفق معهم في ذلك »عبدالعزيز شاهين«(01)، والذي ترجم مصطلح Ethnic group على أنه »الجماعة العرقية« مشيرًا بها إلى الجماعة المتمايزة سلاليًّا وثقافيًّا أو قوميًّا. غير أنه إذا نظرنا إلى لفظ »عرق« في المعجم الوسيط )11) نجد أنه لفظ ينطوي على دلالة فيزيقية حيث يعني »أصل كل شيء «، ويقال أعرق فلان في الكرم تكون بمعنى: كان له أصل فيه، ويقال عارقه أي فاخره بأصله، كما يقال »أعرق الشجر« أي امتدت عروقه في الأرض. وفي الحديث النبوي الشريف: »تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس« رواه ابن ماجه. وهجاء جرير للفرزدق بقوله: عرق الفرزدق شر العروق ٠٠٠ خبيث الثري كابي الأزندي (21) ويتضح من ذلك أن مفهوم العرق ينطوي في الأساس على مدلول بيولوجي يعكس قدرًا كبيرًا من الانحدار القرابي بين مجموعة من الأجيال المتعاقبة. ومن ثم ترتكز الجماعة العرقية على أساس فيزيقي، يتجسد في معظم الأحيان في السلف المشترك لأعضائها بصرف النظر عما إذا كان هذا السلف المشترك حقيقيًّا أم متخيلاً. وعلى ذلك قد ينطبق مفهوم الجماعة العرقية على الجماعات الزنجية في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً. فهي جماعات متمايزة عن غيرها من الجماعات الأخرى الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية في بعض السمات الفيزيقية مع الاعتقاد في انحدارهم من أصل واحد، ومع ذلك فهي جماعات متشربة للثقافة الأمريكية وتدين بالولاء والانتماء للمجتمع الأمريكي.
أما الجماعات الزنجية الأخرى الموجودة في إفريقيا فمن الصعب تمييزها بأنها جماعات عرقية؛ لأنها جماعات متشابهة في الجوانب الفيزيقية، لكنها مختلفة فــي جوانبـها الثقافية، ولذلك يصبح من الأدق وصف هذه الجماعات بأنها جماعات إثنية. وتأسيسًا على كل ما سبق ذكره يمكن تحديد مفهوم الجماعة الإثنية بأنها جماعة اجتماعية يعيش أعضاؤها في ظل ثقافة واحدة، وتشترك في أصل واحد حقيقي أو متخيل، ولها تاريخ وذكريات واحدة وتشعر بذاتيتها، وتسعى للحفاظ عليها، ويشعر الآخرون بهذه الذاتية، ويتفاعلون معها وفقًا لذلك.